نريد طلبة ناضجين في كليات الطب

الكاتب: أ.د. حسن بن علي الزهراني*

مر على أول دفعة من الاطباء تخرجت من كلية طب الرياض حوالي 35 عاماً وهي اول كلية ُتخرج أطباء في المملكة، ثم لحقتها جدة قبل 30 عاماً، وهو ما يدل على أن عمر جامعاتنا في تخريج الاطباء لا زال قصيرا بالمقارنة بالدول المتقدمة أو حتى بعض الدول المجاورة، ومع ذلك فقد لوحظ تميز بيٌن لمستويات الخريجين والخريجات في الدفعات الأول من الكليات الرائدة، بل أنني أزعم بأن غالبية قادة ورواد الطب وصناع القرار في مجالات الصحة والتعليم العالي حالياً هم نتاج تلك الكليات الرائدة، ولا أريد أن أسمي أحداً حتى لا أنسى آخر أو ُيساء فهمي، فما هي أسباب تميز وتفوق ذلك الجيل، أهي الجامعات أم طلبتها أم نظام التعليم في تلك الفترة أم أخلاقيات المجتمع في تلك الآونة؟!.

أزعم بأنه يمكن أن نعزو النجاح لكل تلك العوامل، فالمجتمع كان مجتمعا جاداً يحتفي بالجادين ويقدر العلماء ويثمن دور الطبيب، ونظام التعليم آنذاك كان نظاماً صارماً إلى درجة التطرف لا يسمح بالتسيب أو التساهل، أما أساتذة الجامعات فقد كانوا متفرغين للتدريس حيث كان معظمهم من الأخوة الوافدين، وكانوا يتلقون رواتب مجزية ويحوزون على حوافز مغرية فلا تزويغ لديهم ولا تقصير –والنادر لا حكم له!، أما الطلبة فقد كانت غالبيتهم ممثلة للمتفوقين في أنحاء المملكة من أقصاها الى أقصاها – حقيقة لا زعما أو غشاً، فهم لم يحصلوا على التوجيهية الا بعد جهد جهيد وقناعة بمواصلة التعليم، فمعظم من لا يريد مواصلة التعليم يتجه لسوق العمل مباشرة في التجارة أو المهن أو العمل الحر، ولم يكن في ذلك عيب أو نقص!، حيث كانت الاسر تزوج بناتها من أصحاب العمل الحر بل وتفضلهم على الموظفين الذين تضطرهم وظائفهم للتنقل من جهة أو منطقة الى أخرى، وقد يتجه البعض الى كليات المعلمين أو أرامكو أو الخطوط السعودية اختصاراً للوقت والجهد في الحصول على وظيفة، كان المجتمع بكافة أطيافه وفئاته يقدس العمل ويحترم كل باحث عن الرزق، وكانت النساء في المنازل يعملن ويرعين بيوتهن ولا يرين في عملهن ذلك الا اكمالاً لمهام رجال الاسرة، خلاصة القول بأن أغلب طلبة الطب – أعني بالطلبة هنا الجنسين- في تلك الفترة كانوا طلابا ناضجين بما تعنيه الكلمة من معنى، ناضجين علمياً وذهنياً ونفسياً وأخلاقياً.

لقد بدأ الكثير من الأساتذة المخضرمين في كليات الطب في بلادنا ومعظم دول العالم يدركون بأن تلك المعطيات قد تغيرت، وأن طالب اليوم مختلف تماماً عن طالب تلك الحقبة، ولا يعني هذا التنقيص من شأن أولادنا وبناتنا هذه الأيام فهم أبناء جيل له معطيات مختلفة فمن الطبيعي أن يكونوا مختلفين عمن سبقهم –وليس هذا موضوعنا هنا-، أقول أدركت وغيري من الاساتذة بأن عدد الكليات الطبية في تزايد وأن هناك خريجين من كليات حول العالم، وأن اختيار الطلبة يتم بناء على التحصيل العلمي بشكل رئيسي دون النظر للاستعداد الفردي للدخول في مهنة عريقة تستلزم من محترفها نضجاً وخلقاً وحكمة اضافة الى العلم والمهارات، كما أدرك القائمون على الكليات ذلك فهبت العديد من كليات الطب الى إدخال تعديلات في مناهجها وفي طريقة انتقاءها للطلبة لكي تحصل على ما تريده هي وما يريده المجتمع لا مايريده الطلبة وذووهم فقط، لأن الهوة بين الرغبتين قد بدأت في الاتساع مؤخراً.

أدرك القائمون على التعليم الطبي بأنه لا بد من استحداث تغيرات جذرية في مناهج كليات الطب تبدأ بحوكمة هذه الكليات من خلال اشراك فئات المجتمع المستفيدة من خريجيها، وتغيير طريقة الاختيار لتشمل اختبارات تحدد قدرات الطلبة لممارسة المهنة مستقبلا وتقيس رغباتهم في الالتزام بما تفرضه على ممارسها من أخلاقيات شخصية وعملية، وأن لا يكتفى بقياسات التحصيل العلمي على أهميتها، فلا بد للطبيب من مواصفات تشمل تمتعه بشخصية متوازنة راغبة في العطاء وقادرة على تطوير الذات ومواكبة الجديد، شخصية تنظر الى المريض بعين العطف والحرص على صحته لا بعين الطمع في جيبه أو الحرص على الوجاهة والمال، وهي مواصفات عالية لا بد فيها من اجنماع الصفات الجبلية أو الفطرية مع الصفات المكتسبة، والتي يصعب على الشاب والشابة قياسها في سن مبكرة كالسن التي يتخرجان فيها من الثانوية فضلاً عن أسرتهما، الأمر الذي دفع العديد من المدارس الطبية الى اتباع نهج المدرسة الامريكية في اعتبار دراسة الطب دراسة عليا مهنية، لا يدخلها الا من حصل على درجة بكالوريوس لتضمن نضج وقدرة طالب اليوم على اكمال بكالوريوس آخر في الطب، فلا يتخرج الطبيب الا وقد تخطى الـ 26 عاماً، واتجهت دول كثيرة في اوروبا (دول اعلان بولونيا) الى اعتبار دراسة البكالوريوس في الطب الذي يلي البكالوريوس الاساسي دراسة عليا حيث اطلقت عليه اسم ماجستير الطب وليس بكالوريوس الطب ليعكس اسمه حقيقة المجهود والوقت الذي بذل في الحصول عليه.

أرجو أن نسارع الى وضع خطة جادة للإنتقال من الوضع الحالي إلى وضع نموذج مشابه للنظام الأوروبي أو الامريكي حيث ُيقبل في دراسة الطب أولئك الحاصلين على درجة بكالوريوس في العلوم الطبية أو الصحية أو ما شابهها، وأن يتم اجراء مقابلة أو اختبار لتحديد جدية المتقدمين وان لا يكتفى بمعدل التحصيل العلمي دون النظر الى الجوانب الاخرى كالقدرة على التواصل والرغبة في رعاية المرضى وتقديم مصالحهم كما سار على ذلك الاطباء من لدن أبقراط، ويمكن ان يتم ذلك بالتدرج من خلال تقسيم دراسة الطب في الكليات الحالية الى جولتين: تنتهي الجولة الاولى بعد السنة التحضيرية + سنتين أو ثلاثة في الكليات الطبية و الصحية يمنح بعدها للطالب يكالوريوس علوم صحية، ثم يتقدم من شاء –التعب والتضحية!– الى امتحان قبول لكلية الطب كما يحدث في أمريكا واستراليا وغيرها، ويكمل المقبولون 4 سنوات شاملة لسنة الامتياز يتخرجون إثرها بشهادة معادلة للماجستير في الطب تعادل الماجستير في العلوم وظيفيا ومالياً وهي ما يسمى MD في أمريكا.
إن اختيار طلبة ناضجين لدخول كليات الطب أمر في غاية الأهمية لمواكبة المتغيرات العالمية نحو اعتبار مهنة الطب مهنة حرفية وليست نظرية أو بحثية فقط كما يعتقد البعض، واعتبار خريجها مكافئاً للحاصل على الماجستير، كما أنه يصب في صالح الطلبة لأنه سيحد من ظاهرة التسرب أثناء الدراسة وعدم الرضى الوظيفي مستقبلاً، وسيضمن للمجتمع اختيار أطباء ذوي مواصفات عالية يعتنون بصحته ويسعون لعافيته، أرجو ان لا نتأخر فالوقت لا يعمل لصالحنا وقد نجد في بضع سنين صعوبة في التعامل مع المشكلة دونها مشكلة ضعف مخرجات كليات المعلمين وتوظيفهم، والله المستعان.

* استشاري جراحة الأوعية الدموية
رئيس الجمعية العلمية السعودية لجراحة الأوعية الدموية
 مشرف كرسي الشيخ محمد حسين العمودي للقدم السكرية
كاتب و طبيب أكاديمي
Haaz59@yahoo.com

Exit mobile version