الأدبُ والطبُّ وجهان لعملة واحدة
الكاتب: ياسر الدباغ
الحمدُ للهِ واهبِ نعمةِ الكتابة ، خالقِ القَلَمِ والألمْ ، والصلاةُ والسلام على المُرسلِ بلغة الضادِ إلى أمة اقرأ ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ..
يقول الطبيبُ الأديبُ ابراهيم ناجي :
النَاسُ تَسأَلُ وَ الهَواجِسُ جَمة ..
طَبٌ وَ شِعرٌ ! كَيفَ يَجتَمِعَان ..؟
الشَعِرُ مَرحَمةُ النِفُوسِ وَ سِرُّه ..
هِبَةٌ السَماءِ وَ مِنحَةُ الدَيّانِ ..
وَ الطِبُ مَرحَمةُ الجِسُوم وَ نَبعُهُ ..
مِن ذَلِكَ الفَيضِ الَعلِي الشَانِ ..!
هل يمكنُ أن يكون الطبيب صاحبَ قلمٍ ، وفكرٍ ، ومشاعر ؟!
رُغمَ كوني أدرسُ الطبَّ البشري .. وافتراضُ أني – بما أعرفهُ عن تجنبِ الأمراض – يجبُ أن تكون نسبة إصابتي بالكتابة ، وخاصة ذلك النوع النابع عن فكر معين ، أو مشاعر موجهة ، أو واقعية مزدهرة كانت أم قاتمة ، نسبةً ضئيلة ، إلّا أني مرِضتُ وغيري كثيرٌ من الأطباء أو طلاب الطب بها..
فالكتابة كما يقول الروائي الكبير محمد حسن علوان في روايته سقف الكفاية : ” الكتابة نقص المناعة المكتسبة للروح ،كما هو الإيدز ،نقص المناعة المكتسبة للجسد”..
و لَرُبَّ ضارة نافعة ، فَربما يكونُ حب الأدب ، من ذلك النوع من الأمراض ، الذي لا يعاود الإصابة إن أصاب مرة واحدة ، ويكسب صاحبه مناعة طويلة الأمد..
عودة إلى ذلك المحور الذي أؤمنُ بهِ إيمانا شديدًا ، وهو العلاقة بين الأدب والطب . العلاقة القديمة المتجددة في أفكارها وفي شخوصِها..
نعم هي قديمة في شخوصها : فاتصاف العلماء القدامى بالموسوعية وليس التخصصية ، جعل ذلك أمرا واقعا ، فابن سينا مثلا ، الطبيب العربي الأشهر ، كان فيلسوفا وشاعرا وأديبا أيضا ، وكان لا يستغرب أن تجد له مؤلفات أدبية أو فلسفية ، في الوقت الذي كانت كتبه الطبية ” القانون ” و ” الشفا ” تترجم إلى كل لغات العالم ، وفي أفكارها مخضرمة : فقد شهدت على جميع المدارس الأدبية عبر التاريخ .. وهاي هي الآن تتوج بتاج الأدب الحديث في أفكارها ..
يقول الطبيب والروائي المصري المعاصر علاء الأسواني : ” العلاقة بين الطب والأدب علاقة قديمة جدا، فتكاد تكون مهنة الطب أكثر المهن التي أعطت أدباء في تاريخ الأدب، مثل أنتون تكشوفي “الروسي”، أهم كاتب قصة قصيرة في العالم، إيميل زول في فرنسا، أما في الأدب العربي، فإبراهيم ناجي ويوسف إدريس ومحمد المخزنجي، والسبب في ذلك أن موضوع الطب والأدب واحد فمحورهما الإنسان، فكلاهما يدرس الألم الإنساني، ولكن ببواعث مختلفة، الطبيب يدرس الألم الإنساني كي يخفف هذا الألم عند الإنسان، أم الأديب فيدرسه حتى يربطه بالظواهر الاجتماعية ويعبر عنه، فالطب والأدب وجهان لمهنة واحدة .
هل يولد الإبداعُ من رحمِ معاناة الطبيب ، أم أن الأدبَ يرسمُ طريق الطبيبِ ويؤدبه ؟ ومن منهما يسبقُ الآخر ومن منهما يؤثر في الآخر ؟
يقول الطبيبُ الشاعر الدمشقي نزار بني المرجة : لقد استطاع الشعر ان يجعلني طبيباً من نوع اخر ,وبه صرت اتعامل مع مرضاي بنمط جديد, ولعل الشعر قد ابعدني عن التعامل المادي مع مرضاي, وان من فضائل ممارستي لمهنة الطب علي كشاعر, انها تقربني من فهم الألم بمفهومه العضوي, واذا كان الشعر قد اتاح لي معرفة الالم الانساني بمفهومه الاعم والاشمل,فان ممارسة مهنة الطب اتاحت لي اكتشاف العديد من النماذج البشرية الانسانية المغمورة والقابلة احياناً لأن تكون محرضا للعمل الشعري.
وربما إن فندتَ صفوفَ الأطباءِ وطلابِ الطبِ لوجدتَ لأكثرهم دواوين ينثر فيها حبرهُ ويتنفسُ فسحتهَا إذا ما ضاقَ عليهِ الطبُّ بعقباتِه ، ولقد لمستُ ذلك جليّا في تجمعٍ للأدباءِ الأطباءِ على أحد مواقع التواصل الاجتماعي أنشأتهُ منذُ دخولي كلية الطب ..
ومن هنا .. آملُ باستغلالِ هذه المواهبِ الأدبية المهملة في أكثر الجامعات والكلياتِ الطبية ، وتوجيهها التوجيه الذي يرقى بثقافة أمةٍ تحتاجُ علاجا فكريا وثقافيا متزامنا مع علاجِ الأجساد من الأمراض ..