راحوا الطيبين

الكاتبة: ديما الشافي

تكررت على مسامعي في الآونة الأخيرة عبارة “راحوا الطيبين” ، بداية اعتقدت أنها كغيرها من الكلمات التي تنتشر بسرعة ثم ما تلبث أن تتوارى فتعود إلى ثكناتها السابقة وتندثر إلا أنها بخلاف ما توقعت فقد تجلدتْ واتخذتْ لها موقعاً فسيحاً بين كلماتنا ، ونظراً لمعناها المضلل وللمواقع التي توضع فيها فإني لم أكن أتقبلها وكنت أشعر بأن بها مسبة وانتقاص و تسفيه ظاهر جلي لي ولأبناء جيلي علاوة على أنها توقظ تفكيري على عداد العمر و تشعرني بأننا جيل عتيق غابر وهناك من هم أصغر منا عمراً وأشد منا يوفوعاً وأكثر عنفواناً وفتوة ، وهذا ليس بالشعور الجيد على أية حال!

ولكن ومن ناحية أخرى قد وجدت فيها معنى مستنيراً خفف من حدة موقفي إزاءها فالطيبة هنا لا يقصد بها معنى الطيبة بحد ذاتها فلا يوجد جيل طيب منزه ومعصوم ولا هي من باب السذاجة أيضاً لأن هذا بعيد عن ما كنا عليه ، وإنما المعنى الذي يتجلى ظاهراً منها هو البساطة والبساطة وحدها..

نعم كانت حياتنا بسيطة تلقائية لا تكلف فيها ولا اصطناع ولكن ما الذي استل البساطة من حياتنا؟! و ما الجديد في حياة غير الطيبين؟! وماهو جوهر الإختلاف بيننا وبينهم!

الحقيقة تقول بأن الجيل الصاعد ولد مع ولادة نهضة الكترونية تنافسية ضخمة وثورة للأجهزة والإلكترونيات وهذا طبعاً أمر لا جدال فيه ، فأصبح الطفل يتعلم التواصل في المواقع الإجتماعية قبل أن يتعلم القراءة والكتابة والحساب..

  بُهرنا بها ، وتعلمنا عليها مجاراة لهم فتطفلت على جميع شؤون حياتنا فيسرتها واختصرت لنا الجهد والوقت وأثرتنا بفوائدها ومميزاتها حتى اتكأنا عليها فأصبح إستغناءنا عنها مستحيلاً..ولكن كما هو مسلم ومعروف فإنه لا يوجد أي شئ يعطي ولا يأخذ ، يقدم دون أن يسلب..

فقد بات يزعجني الوقت الذي تقتصه هذه المواقع الإجتماعية منا والذي كان مخصصاً في زمن الطيبين للنفس وللعمل والعائلة ، على الرغم من أنها وسعت دائرة المعارف والأصدقاء وقربت البعيد وعرفتنا على أهل وأقارب ما كنا نعرفهم إلا بالاسم أو الكنية ، ولكن بالمقابل أيضاً أظهرتنا على تضارب ظهر في بعض الشخصيات التي عرفناها على أرض الواقع ثم عدنا فتعارفنا عليها من جديد في الشبكات الإجتماعية، فالبعض يقولون فيها مالا يحصل ويفتعلون حياة غير حياتهم فقد لاحظت بأن هذه الأمكنة تغري الكثيرين ربما لأنها تسد ثقوباً في حياتهم  وربما هي الرغبة في العيش حياة مثالية فنصنعها ونصدقها ونجعلها تسير في خط يوازي خط حياتنا الأصلي وقد يتلاقى الخطان في لحظات اصطدام .. أعتقد بأن فطرة الإنسان هي التي تجبره على مثل هذا الأمر فتخلتف النسب بين الناس فمنهم من يكون التلاقي عنده أكبر فالصدق يكون أكبر وأحياناً التوازي هو الأغلب فيصنعون واجهات تختلف عن دواخلهم ويتباهون بها وهي ليست هم في الحقيقة حتى أصبح يخيل إلي بأننا في مسرح للدمى ، كل الناس تحرك دماهم كيفما يشاءون وهم يدّعون بأنها أنفسهم..كما أن البعض أصبح يغالي في افتعال أحداث يومه فيتمارضون حتى يتُحمد لهم بالسلامة ويتزوجون من أجل أن يُبارك لهم يسافرون لكي يتصورا ويطبخون كي يصوروا..هنا انقلب الميزان وتبدل اللب مع القشرة ، هذا هو التمادي الموغل بالخطأ الذي لابد وأن يعود على أصحابه بالعواقب الوخيمة..

ولكن من نصف الكأس المملوء أرى أنها حفزت الكثيرين نحو المثالية والإستقامة فقد يكره الواحد منا أن يراه أحد على غير شاكلة ما يقول  فيفعل ما قال مرغماً ثم يعتاده حتى يصبح جزء منه فيكون شخصاً فعالاً وإيجابياً كما يدعو أو يتمنى..

وأخيراً لسنا كلنا نسير على موجة واحدة ولسنا  جميعاً نعزف على وتر واحد ويجب أن نعلم جميعاً أن تدوين حياتنا ليس أهم من حياتنا أبداً فلا نسمح لشئ أن يسرق منا متعتها وتفاصيلها الصغيرة..

ولكل “غير الطيبين” : إن الأمور دول ومن سره زمن ساءته أزمان ، وستكونون “طيبين” في يوم ما ..

Exit mobile version