شكراً أيها المرضى

الكاتبة: ديما الشافي

في ذلك الزمن القريب البعيد عندما كنت أرضاً لم تحرث و روحاً لم تنضج ، وتحديداً في سنتي الأولى في الكلية، عندما لم يخبرني إطلاعي الضئيل قبلها بأن الدراسة في كلية الطب تعتمد بشكل فعلي على المرضى وإن كنت أعلم حينها أنهم هم محور دراستنا والغاية منها..كنت على يقين بأن النصب والمشقة ينتظرانني بتربص خلف باب الكلية مباشرة ولكني اخطأت عندما تصورت بأن هذا كله سينصب نحو الكتب والأوراق والمذكرات ولا شئ غير ذلك..

ولكن انقشع شئ من الضباب الذي أمامي فتجدد علمي إلزاماً قبل بداية السنوات الإكلينيكية بقليل ، فعلمت بأن التواصل مع المرضى والإحتكاك معهم سيصبح هو الجزء الأهم من دراستنا وتعليمنا ، فأرقت لهذا الأمر ووجلت منه ومن قبل أن أجربه حتى،  فببساطة وسطحية مطلقة هو تعلم وتطبيق على البشر فزمن القراءة والحفظ البحت قد ولى وحان الآن وقت التجريب الحقيقي الذي لايكون على البشر وإنما على بشر ومرضى في آن..
كنت دائماً ما اسأل من هم أكبر مني سناً ، كيف سنتعامل مع المرضى وكيف سنقنعهم بأن نكشف عليهم ونحن مازلنا طلاب يبدو علينا التردد وقلة المعرفة إلا أن الجميع طمأنني بالإجماع بأن المرضى يقدمون أجمل صورة عن التعاون والإيثار والنبل العظيم، ويسعدون بالطلاب ويرحبون بهم..

ظننت أن كل هذا نوع من الكذب الجميل فربما غايتهم التخفيف من حدة  قلقي وتوجسي إلى أن خابت ظنوني و ثبت عكسها على أرض الواقع وأمام ناظري ..

نحن حقيقةً عندما نتعلم في المستشفى لا نجرجر معنا للمرضى سوى الضجة والإزعاج ، ولا تنضح جعبتنا لهم إلا بما يزيدهم مشقة فوق مشقتهم .. نزورهم صباحاً في حدود الثامنة ، وهو وقت نومهم  بلا شك ، فإما أن نوقظهم أو أننا نفسح مجالاً لخطانا المتخبطة لكي توقظهم قبل أن نصل أسرّتهم ،فنفتح الستائر عليهم وندخل الأضواء المزعجة نحو أعينهم التي أثقلها الألم فنخترق خلوتهم مع الأوجاع ونبعثر صوت أنينهم المتسق ونتجاوز حرمة جروحهم ونتطفل عليها ، نسألهم ونسألهم حتى نتعبهم بالكلام الذي يصبح عبئاً في حضرة  المرض وغايتنا القصوى هي أن نكمل التقرير المفصل عن حالتهم ولو بشق الأنفس قبل وصول الدكتور القادم بعد ساعة أو نصفها ونحن لا نريد أن يرى أي نقص في الحالة عند مناقشتها معه..

صادفت الكثيرين من ذلك النوع الذي أخرسه الداء عمراً وأصابه ملل المستشفى بمقتل وخصوصاً كبار السن منهم فيستبشرون بدخلونا عليهم ويحكون لنا عن قصصهم وحكايتهم فصلاً فصلاً مما لا يهمنا في ذلك الوقت، فنقسو عليهم مرة أخرى ونسحبهم من أرض شجنهم وحديثهم نحو اسئلتنا المملة والرتيبة مرة أخرى..

لا أُكذب قول من يقول بأن هناك معامل ووسائل تعليم متطورة، وهناك صديقات الدراسة واللواتي غالباً ما يكن صالحات للتجارب في حقبة ما ، فنجرب على بعضنا ما يستعصي فعله على الدمى وما شابهها ، ولكن هناك دائماً المرة الأولى في كل شئ وخصوصاً في الأشياء النادرة الحدوث فتكون هذه الأولى عادةً مُجربة على مريض شحيح الحظ بكل تأكيد..
وأيضاً لم أكن أتوقع أبداً أن يكون هناك جزءاً ضخماً من اختبارتنا واقع على المرضى والمرضى الحقيقين، فنتمادى على أوجاعهم ونحن لا نجد أي غضاضة في أن نمسك مواضع الألم لديهم ونكشف جروحهم دون أن نلقى منهم نهراً أو تذمراً، أي تفاني هذا الذي يقدمون في سبيل العلم! وأي أجر يبتغي هؤلاء! وأنها لضئيلة جداً عندما يُسلم الواحد نفسه المتعبة أمام من تسلم طفلها المريض فتختبر عليه الطالبات الواحدة تلو الأخرى بالتتابع ، نِعم المرضى أنتم ونِعم الأمهات أنتن ونِعم المسلمين أنتم..

نحن الطلاب، وفي أحوال كثيرة -تحكمها الظروف علينا- يغلب أن نناديكم بأسماء الأمراض فنقول:(هنا حالة التهاب بالزائدة الدودية وهناك كسر بالمرفق) أوبأرقام الغرف أو الأسرة ، أنتم تكونون في حديثنا أسماء لأمراض أو عدد من كراسي الإنتظار أو عينات دم أو جرعات دواء، أنتم هنا أي شئ عدا أنكم أرواح ورغم كل هذا إلا أننا دائما ما نلقى منكم دعوات تثلج الصدر وتزيح الإرهاق والتعب وربما شعور متأصل بالذنب نحوكم ، وكل ما تقدمون من عطاء وكل ما نفعل من أذى ،له مردود بإذن الله على مرضى قادمين عندما نصبح أطباء فنرد لهم معروفكم بمساعدتهم فما دامت الدائرة متصلة فإنها لن تتوقف عن الدوران بكل تأكيد..

نسألكم دائماً في الغيب عفواً واستسماحاً، ونسأل الله لكم عافية وأجراً ثمناً لما تقدمون وهو ليس بالثمن البخس في كل الأحوال وارزقنا يا الله قلوباً لا تؤذهم وأخلاقاً تسعدهم وتعينهم على مواجهة نوازل المرض..

Exit mobile version