هل تصيب “اضطرابات ما بعد الصدمة” أغلبنا بعد الحوادث المروعة؟
مجلة نبض-BBC:
هناك افتراض بأن كل شخص معرض للإصابة بهذه الحالة التي تعرف بـ “الاضطرابات النفسية ما بعد الصدمة” بعد أن يشهد حادثاً مروعاً. لكن هذه ليست الخرافة الوحيدة التي تحيط بتلك الحالة.
أياً كانت الهيئة التي ستظهر بها حالة “الاضطراب النفسي ما بعد الصدمة”، فإن حادثة مرعبة، مثل حادث سيارة أو كارثة طبيعية، يمكنها أن تترك أثراً بليغاً وطويل الأمد على حالة الشخص.
وهناك افتراض شائع بأن كل شخص معرض للإصابة بتلك الحالة، وهو ما أدى، في تسعينيات القرن الماضي، إلى محاولات لإشراك المصابين في جلسات للاستشارة الفردية أو التفريغ النفسي.
لم تتبين فعالية أسلوب العلاج النفسي هذا، واستنتجت إحدى المراجعات الشاملة لهذا الموضوع أنه ينبغي إيقاف الاستشارة النفسية الإجبارية بعد التعرض لحادث كبير. حتى أن البعض يذهب أبعد من ذلك ويجادل بأن “قطاع الكوارث” قد روج لهذه التدخلات بدون فحص دقيق.
وعندما تلقي نظرة على الأدلة المتوفرة، فسترى عدم صحة إصابة أكثرية الناس بهذه الحالة النفسية. وليست هذه الخرافة الوحيدة التي تحيط بهذا النوع من الاضطرابات النفسية.
يمكن تفهّم الصدمة والتوتر والخوف الذي ينتاب أي شخص مباشرة بعد حادث مؤلم، إذ تظهر الأحداث أكبر مما هي عليه في مخيلاتهم، وربما يجدون أنفسهم وقد ابتلوا بمعاناة تستمر لأيام أو أسابيع باستعادة ذكريات الحدث أو كوابيس، أو توتر مستمر وشعورهم بأنهم غير آمنين.
ليست أي من هذه الأحاسيس مريحة، ولكن جميعها ردود فعل طبيعية تجاه أي حدث، سواء كان تهديداً مباشراً لحياتك، أو أنك شاهدت أناساً آخرين وقد أصيبوا أو ماتوا أمام عينيك.
يمكن لاستذكار الحدث أن يتداخل مع حياة الشخص بحيث يشوش عليه التفكير. كما أن الشعور بالذنب قد يجعل الشخص يعيد الحدث في ذهنه مرة تلو الأخرى، فعلى سبيل المثال، يتكرر في ذهنه السؤال الخاص بما إذا كان باستطاعته بذل جهد أكبر لإنقاذ الآخرين.
وقد يبذل الأشخاص جهودا كبيرة لتجنب أماكن أو نشاطات تذكرهم بالحادث أو يفقدون الإحساس تجاه أي شيء في محاولة لإلغاء الشعور بأي شيء على الاطلاق. إن الإحساس الدائم بحالة التأهب القصوى يعني ببساطة أن مرور أي شخص بجانبهم في الشارع قد يسرع من ضربات قلبهم، ويعيد إليهم شعورهم بالرهبة.
مرونة استثنائية”
إن أعراض حالة “الاضطراب النفسي ما بعد الصدمة” هي أعراض حقيقية ومقلقة جداً. ومن المهم أن يحصل كل من يعاني منها على العناية اللازمة.
undefined
ومن بين علامات تشخيص هذه الحالة النفسية هي استمرار الأعراض لمدة شهر على الأقل بعد الحادث. كما أنها تؤثر على عمل الشخص وحياته الاجتماعية أو توقفه عن ممارسة الأمور التي يريد القيام بها.
اللافت للنظر أن هذه الأعراض تخبو تدريجياً عند معظم الناس، وبالتالي فإن حالة الاضطراب النفسي ما بعد الصدمة ليست شائعة كما نتوقع.
وفي الحالات القصوى، مثل الحروب، لا يصاب معظم الناس بهذه الحالة. فعلى سبيل المثال، أصيب فقط 4 في المئة من الجنود البريطانيين بهذه الحالة بعد خدمتهم العسكرية في العراق، وازدادت تلك النسبة إلى 6.9 في المئة عند أولئك الذين كانت لديهم مهمات قتالية.
أما عند الجنود الاحتياط فقد كانت النسب أعلى بقليل، بمعدل يقرب من 6 في المئة. ويعتقد الباحثون أن السبب قد يرجع إلى عودتهم إلى حياتهم المدنية السابقة حيث يكون عليهم التأقلم معها بشكل تلقائي، بينما يظل أفراد القوات المسلحة مع زملائهم الذين يتفهمون بشكل أفضل معنى الحرب.
على نفس المنوال، وبعد هجمات على مدنيين، لا يصاب معظم الناس بالحالة هذه. فقد أجريت دراسة على أكثر من 10,000 شخص، بمن فيهم أفراد الشرطة وعمال البناء، ممن سارعوا لمساعدة موظفي مركز التجارة العالمي في تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول عام 2001.
وأظهرت هذه الدراسة أن نحو 75 في المئة منهم لم يعانوا من أية مصاعب طويلة الأمد. صحيح أنه يمكن أحياناً للأعراض أن تتأخر في الظهور.
فقد عانى 8.5 في المئة من الذين قدموا المساعدة في أحداث مركز التجارة العالمي من صعوبات في أوقات متأخرة جداً. حتى أنه وجدت حالات لجنود كانوا قد قاتلوا في الحرب العالمية الثانية وقد عادوا إلى ديارهم بعد تقديم المساعدة بدون أية أعراض.
وقد استمر هؤلاء في حياتهم المهنية، وعند تقاعدهم وجدوا أن الكوابيس وذكريات الأحداث الماضية قد عادت إليهم فجأة.
التجربة النرويجية”
سافرت إلى النرويج للقاء الناجين من حادث إطلاق النار في جزيرة أوتويا عام 2011. قتل في ذلك الحادث 69 شابا، وشهد العديد غيرهم أحداث القتل هذه.
ونجى بعضهم عن طريق اختبائهم في المرافق الصحية لمدة ثلاث ساعات، وكانوا يعرفون أن القاتل لا يزال على مقربة منهم، ويتصيّدهم. وبعد الحادث مباشرة، قال أتلي ديريغروف، مدير مركز علم نفس الأزمات في مدينة بيرغن إن 30 إلى 50 في المئة سيعانون من صعوبات نفسية طويلة الأمد بما في ذلك الاضطراب النفسي ما بعد الصدمة.
ورغم أن الأرقام كانت في الجانب الأعلى من التقديرات، إلا أن تلك الأرقام نفسها كانت تعني أن نصف الذين شهدوا أصدقاءهم وهم يُقتلون، وفرّوا حفاظاً على حياتهم، قد تعافوا بطريقة أو بأخرى.
حدث إطلاق النار خلال عطلة الصيف وكان أكثر الشباب المعنيين على وشك البدء في الدراسة في مدارسهم الجديدة في الخريف، مما جعل الأمر أكثر صعوبة عليهم.
لكن البلدة كانت جاهزة بخطة معدة سلفا لمواجهة مثل هذا الأمر، سواء كان كارثة طبيعية أو جريمة، ووفرت الدعم والمساندة بمستويات تفتح آفاقاً جديدة.
فقد قُدمت المشورة لكل مدرسة معنية عما يجب عمله. وخُففت قواعد الحضور الصارمة للناجين، ومُنح الطلبة فرصة اختيار الوقت والمكان الذي يريدونه للتحدث عما حصل أمام زملائهم الجدد في الصف. حتى أن بعضهم قرر تفادي الأسئلة بالوقوف في الصف وإخبار طلبة الصف بأكملهم عن الحادث متى ما وجدوا أنفسهم جاهزين للقيام بذلك.
وقد أعطي الناجين وأهالي الضحايا فرصة العودة إلى الجزيرة التي شهدت الحادث في أوقات مختلفة، وقد تمت الاستفادة من دروس كوارث سابقة على أنهم سيتغلبون عليها إذا ما واجهوها من منظور مختلف. وهذا النوع من الدعم كان مثمرا وأحدث فرقاً، حتى أن بعض الدول تدرس الآن تلك التجربة النرويجية.
مستويات معايشة الحدث
خرافة أخرى تحوم حول حالة “الاضطراب النفسي ما بعد الصدمة”، وهي أن الأشخاص الضعفاء فقط سيصابون بها. لماذا يصاب البعض بهذه الحالة ولا يصاب آخرون بها، حتى بعد التعرض لأكثر الأحداث بشاعة؟
لكن يظل الأمر محيّراً. وقد تضمن أحد أهم كتب الأطباء النفسيين في الولايات المتحدة الأمريكية حتى وقت متأخر ردود فعل الناس تجاه الحادث الأولي. حيث كان الاعتقاد السائد أن الخوف الشديد والشعور بالعجز والرهبة يؤدي إلى حالات أكثر من الاضطراب النفسي ما بعد الصدمة.
لكن هذه المؤشرات أزيلت من الطبعة الحديثة لهذا الكتاب حيث وجد أنه لا يمكن التكهن عن طريقها بمن سيعاني من الحالة ومن لن يصاب بها.
كما أن طبيعة الحادث نفسه ستؤثر في ذلك بلا شك. وكانت معدلات الإصابة بالحالة لدى الجنود الأمريكيين في العراق هي تقريباً ثلاثة أضعاف مقارنة بالجنود البريطانيين.
ويعود السبب، جزئياً، إلى وجود نسبة أكبر من الجنود الاحتياط الأمريكيين، ولكنه يعود أيضاً إلى أن معدل خدمتهم العسكرية هي سنة واحدة، مقارنة بستة أشهر للخدمة العسكرية البريطانية.
وفي مراجعة للعديد من الدراسات لمتابعة العاملين في مركز التجارة العالمي يوم الحادي عشر من سبتمبر / ايلول 2001، وجد الباحثون أن أولئك الذين جُرحوا أو الذين كانوا يعملون في طوابق أعلى أو شاهدوا بأعينهم آخرين وهم يهوون أو يقفزون من البناية، أو مات فيها موظفوهم، كانوا أكثر عرضة للإصابة بحالة الاضطراب النفسي ما بعد الصدمة. لكن النساء أيضاً، والشباب من ذوي الأجور الأقل، وأولئك الذين واجهوا نكسات في السنين السابقة كانوا كذلك. لذا فإن الصورة لا توال معقدة.
الخرافة الأخرى هي أن الأطفال يتعافون مباشرة بعد حصول حادث مؤلم، لكنهم يمكن أيضاً أن يعانوا من حالة الاضطراب النفسي ما بعد الصدمة.
وقد حاولت نشرة لعشرات من الدراسات عن الأطفال النازحين تشخيص العوامل الرئيسية المؤدية إلى هذه الحالة النفسية.
لم يكن مستغرباً أن التعرض للعنف يُحدث تفاوتاً ملحوظاً، لكن لا يزال من الصعب التكهن بشأن من يمكن أن يصاب بها. فحتى عدد المرات التي مروا فيها بحادث مؤلم لا يمكنه أن يساعد في التنبؤ بما إذا كانوا سيصابون بهذه الحالة أم لا.
إضافة إلى العوامل التي يتعرض فيها الناس إلى المخاطر، توجد أيضاً عوامل تساهم في مرونة الناس عند مواجهة الحوادث وتحميهم من الإصابة بهذه الحالة.
كما أن مساندة ودعم أفراد العائلة والأصدقاء له دور كبير قطعا. لكن، مرة أخرى، لا تدلنا هذه العوامل تماماً على من سيصاب بهذه الحالة من عدمه. وما لم نعرف المزيد عن هذه الحالة، فإن مفتاح الحل هو توفير الرعاية النفسية إذا ما احتاج الناس إليها.