هل تؤثر زراعة قلب ثان على عواطفنا؟
مجلة نبض-BBC:
عندما زود رجل بقلب جديد تغير عقله على نحو غير عادي، فكيف ذلك؟ الإجابة تكشف عن حقيقة مفاجئة تتعلق بأجسادنا، وفقا للصحفي العلمي في بي بي سي ديفيد روبسون.
كل ثانية أو نحو ذلك يشعر المريض الذي يدعى كارلوس بأن هناك “مضخة” صغيرة تتحرك في جوفه. كانت تلك هي نبضات “قلبه الثاني”.
كان الهدف من المضخة الآلية الصغيرة التي زرعت له هو تخفيف العبء عن عضلات قلبه المتهالكة، لكن كارلوس (وهذا ليس اسمه الحقيقي) لم يشعر بارتياح، فقد حل وقع الآلة محل نبضات قلبه، وهو إحساس غريب سيطر على جسده، لأن الآلة تنبض فوق سرته وتولد لديه شعورا غريبا وخفيا بأن صدره قد سقط إلى معدته.
لقد كان شعورا غريبا وغير مريح، لكن عندما التقى كارلوس بعالم المخ والأعصاب أوجستين إيبانز تكهن الأخير بوقوع آثار أكثر غرابة من ذلك، إذ يعتقد إيبانز أنه بتغيير قلب الإنسان ربما يغير العلماء عقل مريضهم أيضا. وكارلوس الآن سيفكر ويشعر ويتصرف على نحو مختلف نتيجة لذلك العضو الذي زرع بداخله. لكن كيف ذلك؟
غالبا ما نتحدث عن مفهوم “اتباع القلب” (أو التعبير الذي يفيد بأن قلب المرء هو دليله)، لكن العلماء بدأوا مؤخرا فقط في إظهار أن هناك جوانب صدق في هذا التعبير الدارج، فتلك العضلة الجياشة تسهم في تكوين مشاعرنا والمشاعر الغريبة “للبديهة” أو الحدس على نحو واقعي للغاية.
فكل شيء، بدءاً من تعاطف المرء مع آلام شخص آخر إلى ما قد يخالج البعض من شعور بأن رفيق حياته يخونه، ربما يكون مصدره إشارات دقيقة في القلب وفي سائر الجسد.
والرجل الذي يشعر بأن له قلبين في جوفه يوفر لنا فرصة فريدة لاختبار تلك الأفكار، كما يقول إيبانز الذي يعمل بجامعة ففالورو في بيونس أيريس بالأرجنتين.
“بين الجسم والعقل”
وما يرمي إليه إيبانز يتسق مع آلاف التكهنات فيما يتعلق بدور القلب في الإدراك والذي كان يعتقد في بعض الأحيان أنه يفوق دور العقل. فبلمس ما يعرف باللحاء الرمادي البارد على سبيل المثال، افترض أرسطو أن المهمة الأساسية للعقل هي ترقيق العواطف النابعة من القلب الذي اعتبره موطن الروح.
ولأسباب مماثلة كان المحنطون من المصريين القدماء يتأكدون من ترك القلب في الصدر ولكنهم كانوا يكتفون بإزالة “حواشي الجمجمة” من الرأس.
والآن نلقي نظرة أكثر تفحصاً على تلك الفكرة، حتى لو كانت النظرة إلى القلب باعتباره ينبوع عواطفنا قد تلاشت تدريجيا، ولننظر إلى الكثير من الاستعارات البلاغية الكثيرة التي نستخدمها لوصف مشاعرنا اليوم.
وقد ساعد ويليام جيمس مؤسس علم النفس الحديث في تشكيل هذه الأفكار في القرن التاسع عشر باقتراحه بأن العواطف هي دورة مستمرة جيئة وذهاباً بين الجسم والعقل، وطبقا لنظريته هذه قد يكون العقل قادراً على تسجيل تهديد ما عقليا، لكن وعينا بدقات القلب المتسارعة والأكف التي تتصبب عرقاً هو الذي يحول مفهوم مجرد إلى عاطفة غريزية.
وقد أثارت أفكار جيمس سؤالا مهما أيضا: إذا كان كل واحد منا له وعي جسدي مختلف، فهل يشكل ذلك العواطف التي يمر بها؟ وكان من الصعب اختبار التجربة، لكن بعد مئة سنة عاد العلماء إلى دراسة تلك المسألة مرة أخرى.
الدراسات طلبت أولا من المشاركين فيها عد ضربات قلبهم استناداً فقط إلى الأحاسيس التي يشعرون بها داخل صدورهم، ولم يسمح لهم بوضع يدهم على قلبهم أو قياس نبضهم بأي وسيلة أخرى.
جرب ذلك أنت بنفسك وستجد أن هذا النوع من “الوعي الباطن” يمكن أن يكون صعبا جدا.
فهناك شخص من بين كل أربعة أشخاص أضاعوا ما يعرف بالعلامة الفارقة بنحو 50 في المئة، مما يدل على أنه لم يكن لديهم أي إدراك يذكر لحركة القلب داخلهم، ولم يحصل سوى ربع العدد المشارك في التجربة على 80 في المئة من حيث دقة الشعور بحركة القلب. وبعد اختبار وعيهم القلبي أعطي الباحثون المتطوعين اختبارات متنوعة لقياس الإدراك.
“الصور العاطفية”
تبين أن جيمس كان مصيباً تماما، فالناس الذين لديهم مزيد من الوعي بالجسد يميلون إلى أن يكون لديهم ردود فعل أكثر حدة للصور العاطفية، ويقال إنها تحركهم بشكل كبير للغاية. وهم أفضل كذلك في وصف مشاعرهم.
والمهم أن هذه الحساسية فيما يبدو تمتد إلى مشاعر الآخرين، فهم أفضل أيضا في التعرف إلى العواطف في وجوه الآخرين، وهم أسرع في تعلم تجنب تهديد محتمل من قبيل صدمة كهربائية بسيطة في المختبر.
وهذا ربما يعود إلى أن تلك المشاعر الجسدية الحادة تشبع ذاكرتهم، وتجعل من مشاعر الكره مثلا أكثر عمقا وشدة.
“وقد تربطنا (تلك المشاعر) بسرعة بالجمال أو القبح النسبيين للأشياء، أو الاختيارات أو مسارات الشيء الذي نواجهه،” على حد قول دانيلا فيرمان الباحثة بجامعة كاليفورنيا ببيركلي.
وبعبارة أخرى، يعيش الأشخاص المتناغمون مع أجسامهم حياة عاطفية أكثر ثراء، وأكثر حيوية بأفراحها وأتراحها. وتقول دانيلا: “ربما لا نستطيع وصف الملامح الفسيولوجية الخاصة بتجربة سارة مثلا، لكن يمكننا أن نتعرف على الأحاسيس المرتبطة بها عندما تحدث”.
وهذه الإشارات الجسدية السرية قد تكون كامنة وراء أفكارنا البديهية، أي الأحاسيس التي يصعب تحديدها، مثل إحساسك بأنك الكاسب في لعبة البوكر مثلا.
والأشخاص أصحاب الوعي بالجسد لم يكونوا دوما على صواب، بل إنهم أسوأ الخاسرين في حال الخسارة، وهم أيضا أفضل الفائزين في حال الفوز. أي أنهم أكثر ميلا لاتباع هواجسهم الخاصة أو ما يمليه عليهم حدسهم.
وهنا قد يكون الموروث الشعبي على صواب، فالأشخاص الذين هم على صلة بقلوبهم يكونون أكثر عرضة لاتباع حدسهم، سواء في الأمور الحسنة أو السيئة. وقد دفع كل ذلك الباحث إيبانز للتساؤل عما يمكن أن يحدث عندما تكون مزوداً بقلب صناعي إضافي.
فإذا كان كارلوس قد خبر تغييرات كبيرة، فذلك يقدم دليلا مهما جديداً على أن عقلنا يمتد إلى أبعد من عضو الدماغ بكثير.
وهذا بالضبط ما تبين له، فعندما قاس كارلوس نبضه، على سبيل المثال، اتبع ايقاعات الآلة وليس نبض قلبه. وحقيقة أن ذلك غير أيضا من إدراكات أخرى لجسده من قبيل اتساع حجم الصدر أمر ربما يكون متوقعاً.
وبمعنى آخر، أدى تغيير وضع القلب إلى تكوين شعور لا يختلف عما يعرف بوهم “اليد المطاطية” الشهير. لكن الأمر المهم هنا هو أنه غير بشكل جلي من مهارات اجتماعية وعاطفية معينة.
وقد بدا كارلوس وكأنه يفتقر إلى التقمص العاطفي عندما رأى صور الناس الذين وقعت لهم حادثة مؤلمة على سبيل المثال. وكانت لديه مشاكل أعم في قدرته على قراءة مشاعر الآخرين ودوافعهم.
والأهم من ذلك كله القدرة على اتخاذ القرار اعتمادا على الحدس، وكل ذلك يتسق تماما مع فكرة أن الجسد هو الذي يتحكم في الإدراك العاطفي.
قوقعة بلا روح
ومن المحزن أن كارلوس توفي من مضاعفات علاجات لاحقة، لكن إيبانز يأمل في أن يواصل دراساته مع مرضى آخرين. وهو الآن يجري اختبارات على اشخاص يجرون عملية زرع قلب كاملة ليعرف ما إذا كان ذلك يؤثر على وعيهم الباطن أم لا.
فالدمار الذي يلحق بالعصب يمكن أن يقطع بعض الإشارات الداخلية المرسلة من القلب إلى الدماغ، مما يؤثر بالتالي على عملية الإدراك لديهم.
كما يبحث إيبانز فيما إذا كان وجود خطأ في الاتصال بين الجسد والدماغ سيؤدي إلى ما يعرف بـ اضطرابات تبدُد الشخصية، وهي الحالة التي يكون لدى المرضى فيها شعور غريب بأنهم لا يسكنون أجسادهم.
وقال أحد المرضى ذات مرة للباحثين: “أشعر وكأنني لست على قيد الحياة، وكأن جسدى خاويا، مثل القوقعة التي لا حياة فيها. أبدو وكأنني أمشي في عالم أدركه ولكنني لا أشعر به.”
لكن بارني دان، أستاذ علم النفس السريري بجامعة اكستير البريطانية، يرى أن هؤلاء الأشخاص يمكن تدريبهم وأن مسألة الوعي بالذات يمكن أن تتحقق بالممارسة.
ويقول دان: “في الوقت الحالي، يحقق العلاج تقدما ملحوظا، فنحن نغير ما يعتقده المريض، ونثق في أن عواطفهم سوف تتبع ذلك.”