قاموس فصحى – عامّي

الكاتبة: د. ديمة الشافي

“كولنا نحب الغه العربيه الفصحى و ودنا نكتب فيها لاكن كتابتها صعبه فسرنا نستخدم العاميه وهاذا اللي تعودنا نسويه ”
كثيراً ما تمر علينا جملة من هذا النوع خلال اليوم الواحد، جملة معبأة بالكلمات العامية إضافة إلى العديد من الأخطاء الإملائية. وهنا الحق يقال بأن الكتابة بالعامية هي مصدر الضعف الإملائي، وأما الخوف من الوقوع في الأخطاء الإملائية فهو الدافع الأول للبعض نحو تفضيل الكتابة بالعامية. هي حلقة مفرغة تنطلي أسبابها على وعينا فنظل ندور فيها دون أن نشعر.
مؤخراً أصبح يقدح لي جلياً الفرق البيّن بين أبناء الماضي وأبناء اليوم في الكتابة باللغة العربية الفصحى، وتفصد لي عجز أبناء اليوم وافتقارهم إلى القدرة على التعبير الفصيح وحتى البسيط منه. تساءلت كثيراً عن الأسباب، لكني وبمجرد المرور بالذاكرة على نمط حياتنا القديم وجدت العلل تشي بنفسها دون بذل مني. ففي ظل افتقار طفولتنا إلى الأجهزة الإلكترونية كما في شكلها الحالي، كانت تسليتنا تزج بنا في جميع مواضع استعمال اللغة قصداً أو حتى عفواً، فنمضي الوقت في قراءة قصة أو تصفح مجلة أو حل للكلمات المتقاطعة، إضافة إلى صنع المجلات وكتابة الرسائل وأمثلة أخرى كثيرة. وحتى اللعب المحاكي للواقع الذي كنّا نعيشه، كان يعج باستخدام الورقة والقلم فنقحمهما في التعبير ونوصل بهما كل ما نريد. زيادة على ذلك، فالرسوم المتحركة التي كنا نستأنس بها كانت لا تدبلج إلا إلى الفصحى: عدنان ولينا، سندباد، جزيرة الكنز، سالي وماروكو وقصص الشعوب… كلها كانت تبث بلغة عربية سليمة لا عجمية فيها، فضلاً عن البرامج التي تحفل باللغة أمثال: المناهل وافتح يا سمسم التي تُنصّب فقرة كاملة للحروف والتهجئة.
المعضلة اليوم أن الطفل يتعلم القراءة والكتابة ولا يجد وقتاً لممارستها وقد انكفأ طوال وقته على الألعاب الكثيرة التي تجعله منكساً رأسه فتحول بينه وبين القراءة ولو ساهياً لأي لوحة أو إرشادات قد يصطدم بها.
إذن نقضي إلى أن الأجهزة الإلكترونية باتت تناكف اللغة العربية وتكشر لها عن أنيابها، وهذا أيضاً يكون عندما نستخدمها في الكتابة والتعبير في “الواتس اب” مثلاً، فنحن لا نتكبد مشقة الكتابة الفصيحة فنستعمل بدلا منها لهجتنا العامية المنطوقة المعتادة عليها ألسنتنا، وهذا ما يجعل شكل الكلمة غير الفصيحة مألوفاً لدى القارئ فيشتت ذهنه وينسيه رسم الكلمة الأصلي ما يستجلب الحيرة وقت الكتابة بين الكلمة الأصلية والمحورة، وخصوصاً عند الصغار الذين مهما كتبوا في هواتفهم فإن الكلمات لا تحفر بذاكراتهم كما يفعل القلم. فلا عجب إذن حين نرى الصاد صُيّرت سيناً والضاء ظاء، عوضاً عن حركات قلبت حروفا كالضمة التي أضحت واواً، ولا تهون بكل تأكيد الهمزات.
والأنكى من ذلك كله حين يقع البعض في براثن العبث باللغة العربية، ويتمادى باستخدام معرفات على وسائل التواصل الاجتماعي تتعمد الكتابة بالأخطاء الإملائية على سبيل الطرفة والتندر، ناهيك عن اللوحات الإعلانية التي تستبيح اللغة فتستخدم العامية عياناً بياناً فتقول: “إنت جوعان؟؟!” أو “تبغى تبّلغ دق على الرقم…” دون أن تلاقي أدنى درجات الاستهجان أو الاستنكار.
وما يؤلمني حقاً هو نأي الكُتاب عن الكتابة الفصيحة، بل ثمة من أصبح يجرؤ على اتخاذ اللهجة العامية مسلكاً له من دفة الكتاب إلى الأخرى، وهذا لا يعني إلا أن لغة الكاتب مهترئة وأنه لا يستطيع تجاوز هذا الضعف والإحراج إلا باستخدام الطرق السهلة والبسيطة. وفي الواقع فإن هذه الظاهرة ليست غضّة المنشأ ولا حتى وليدة الحاضر، لكن انتشارها الحالي وخصوصاً بين اليافعين هو ما يجبرنا على أن نجس نبض لغتنا بين الحين والآخر. ويجدر بنا هنا ألا نتجاوز تجربة سنان أنطون ووجهة نظره التي لا ترجح كفة الميزان على حساب الأخرى حين يتمسك بحفظ اللغة الأصل واللهجة الفرع في آن واحد ، حيث يصر على كتابة حواراته باللهجة العراقية المحلية لكنه في نفس الوقت يحافظ على جسد الرواية المكتوب بالفصحى، وهو بذلك يحفظ الاثنتين معاً ويرينا أن عربيته لا غبار عليها وهو ليس عاجزاً عن استخدامها.
أتفهم أن يكون عندنا ضعف في اكتساب لغات جديدة، لكني لا أتفهم أبداً أن يكون هذا الضعف في لغتنا الأم، ولو استمر الحال على ما هو عليه فيمكنني أن أتبصر بأن اللغة العربية الفصحى ستندثر كما شبهتها “حياة الياقوت” باللغة اللاتينية التي انتهى بها الحال إلى التحلل والتفرع إلى لغات مختلفة وقد آل مآلها إلى لغة بالية ديدنها الصعوبة والتعقيد لا يفهمها الجمع فيُحجم عن القراءة بها وقد تستبهم عليهم وتستعجم، وما الخوف إلا أن تضطرهم لاستعمال قاموس (فصحى – عامي) وهذا على ما أظن ليس ببعيد!
ألم يقل يوسف السباعي: ” تصوّرت نفسي وقد جمعت هؤلاء الرقعاء، وشددت وثاقهم وألقيتهم في أحد ميادين القاهرة، وأمرت بجلدهم كل واحد مائة جلدة، حتى أجعلهم لا ينطقون بالضاد فحسب بل يتأوهون بالضاد، وأعلمهم إذا ما جلسوا فيما بينهم أن يتكلموا العربية”. وهذا لم يأتِ إلا بهاجس ألا نجد بيننا من يعمل على رأب الصدع أو إنزال لغتنا منزلتها التي تستحق.
ويكفينا الاستبشار بكل من استنكر الجملة الافتتاحية واستقبحها.

Exit mobile version